السيرة الذاتية

أعمــــــال

مقـــــالات

أخبــــــــار

للاتصــــال

ENGLISH




 

 


 

 

فضاء تصويري بمخيلة بكر ويد طفولية

إسماعيل الرفاعي
2007


في عالم أوشك أن يسدل ستارته على الروح.. في عالم ليس لنا موضع قدم فيه.. في عالم أدار ظهره لنا، ثمة أرواح تعيد ترتيب الحياة على صورتها، هكذا مقرونة بالخفقة ومسورة بالحلم.. عالم تقطره الروح في مكابداتها وعذاباتها بشغف طفولي ورغبة جامحة.
هكذا يشدنا ياسر صافي إلى عالمه الإبداعي وهو لمّا يغلق عينه على حلمه بعد، ولم يجفّف جسده من ظلال تجربة موحشة موسوماً بمرارة عالية وسخرية موجعة.
فما الذي أفصح عنه في غمار اشتغاله على لوحته التي حازت فرادتها بجدارة، لما تضجّ به من خلائق تدين العالم بتشظيها وهي تقلب المفاهيم الجمالية الساذجة وتسخر من رصانة الفن؟. إنها "عين الروح" كما تقول (تالا) في قصيدتها اليانعة، يضم بها الصافي العالم بأطرافه الشاسعة ليعيد إنتاجه بطزاجة وعمق.
يرسم الصافي شخوصه بطريقة تعكس جوهرها لا شكلها وتفصح عن بؤرة التوتر التي يعيشها الإنسان في صراعه المرير مع نفسه ومع ما يحيط به، كي يشهر جوهرة الروح التي يحاول أن يعيد الاعتبار لها في عالم مقلوب رأساً على عقب.
مفرداته تتوزع في فراغ لا جاذبية له، أجنحة غير مرئية ترتفع بها إلى أعلى وكمائن تشدها إلى أسفل، كل ذلك في نسيج لوحة مكتفية بنفسها ومحققة قانونها الخاص. فالكائنات التي لا ملامح لها تصبح صورة لنا ويتحول صراعها الغامض إلى صراعنا الشخصي، فما الذي يمنح العمل طاقته وقدرته على الإدهاش والجذب؟ وهل يؤكد الصافي مقولته بنفيها ومسؤوليته بمخيلة الطفل التي يرسم بها؟.
والتجربة الفنية عند صافي تجربة من لحم ودم، فثمة أشخاص يبزغون من عمق اللوحة يحاورهم ويتأملهم وقد يبقي عليهم من خلال إلماحات موجزة أو يغيبهم بكائنات أخرى تملك فصاحة التعبير عن نفسها، بلغة لا نلبث أن نكتشف إيقاعها الخاص ونتعرف على مداليلها حين نغمض أعيننا ونحدق بأرواحنا .. من هنا تأتي المقاربة التي يجمعنا فيها الصافي إلى عالمه حين تلهج في دواخلنا كائنات شبيهة بكائناته وهي تبحث عن بوابة تعبر من خلالها.. تلك الكائنات التي تنتمي إلى الأرومة الأصلية للإنسان بكل ما اختزنته ذاكرته من وجع ومن تجلي، من حب ومن خسران.
والصافي يلون بالطريقة ذاتها التي يرسم بها فقد تبلورت أدواته التعبيرية من خلال إصراره على الخصوصية وامتلاكه الفطري لها، غير آبه بالحلول الفنية الجاهزة أو الأساليب المكرسة، في الوقت الذي امتلكت فيه ألوانه قيمة تعبيرية كبيرة بحيث يتكامل دورها التشكيلي المتناغم جوهرياً مع مناخ العمل وموضوعه، حتى يعلن بلحظة مفاجئة انتهاء العمل دون إفاضة أو حشو، فما ألمح إليه تراه بوضوح وما صمت عنه تسمع همهماته، كل ذلك في سياق تأليفي يفترق عن الصورة المألوفة للأعمال المطروحة في المشهد التشكيلي وبشكل يؤكد على شعريته الخاصة ومخيلته البكر.


وإذا كان الصافي قد أكد حضوره كفنان غرافيكي استطاع أن يسوق في رمادياته عالماً مشبعاً باللون ومناخا تصويراً مكتملا، فقد نُقشت حفرياته بخطوط مرهفة وقادرة على التحوير واشتقاق الأشكال من ذاكرته الطفولية، موحياً في الوقت ذاته بمهارته التصويرية العالية التي جاءت لتغني أشكاله التعبيرية وتجربته الجمالية.. ومؤكداً قدرته على تمثيل تجربته بأبعادها الكونية.
من فضاء إلى آخر، ومن أرض إلى أخرى تنتقل محفورات الصافي وأعماله التصويرية في أزمانها ومسارح عرضها، لكنها تظل متشبثة بتربة الروح وغواية اللون، وبذلك الجذر الذي يربطنا بأساطير أسلافنا وبالمعنى الذي حاول الفن أن يؤكده عبر مسيرته الطويلة، من خلال فنانين ضمت أجنحتهم الأرض والسماء لتبتكر أرضاً جديدة آهلة بالحالمين. فهل ثمة خارطة أبلغ من خارطة الروح حين تكون الدروب مغلقة وحين تقودنا السبل كلها إلى الخراب؟.
فأي خراب يستشعره الصافي؟.. أي عزاء يحاوله، سوى ما يلتقط أصداءه من تربة مخيلته، ومن أغواره السحيقة التي تحيل المرارة إلى طرفة جارحة، والانكسار إلى لوحة مشيدة بهندسة عابثة.