|
|
|
خرافة الطريق ومسار الخطوات
طلال معلا 2007
في الحياة , وفي تفاصيلها اليومية الكثيرة مما يشغل الفنان لاختبار واقعه , بخاصة
حين يضحي الطريق بمختلف دلالاته جوهر ومحتوى العمل الفني , والصلة التفاعلية الحية
مع ظروف الفنان , المدفوع دائماً للتلاحم مع الاجتماعي,واقتحام مقاييس المرئي
بأدواته المعرفية , وتفجير الحسي بخفوته وانطلاقة على هيئة معنى بصري تعبيري دون أن
يتخلى عن خصوصية ذاته ,أو مواجهة الأيديولوجيات التي تقود إلى عزلته , أو تهميش
الضوء الكامن في المتحقق من إنجازاته .. وبكل الأحوال فإن العين وهي تمضي في طرقات
الفنان ياسر صافي,إنما تحاول وصل اللقطات ببعضها البعض .إذ ثمة من يعيش هزيمته
أوغربته أو حلمه أو توقعه أو انسحاقه أو سخريته ..عالم من الخطى في فضاء خارج
الجاذبية المعهودة في الحوار بين الكائن وكونه .
يحتل هذا الفضاء الإنسان ظهوراً و خفاءً , وفي الطريق إلى تلمس الأسئلة التي تدفع
الفنان تبرز طريقة تفكيره بمعالم الشارع المصورأوالمتصور , إذ تمضي شخوصه في الجهة
المخالفة لحقيقة الهدف المرسوم سلفاً في تصور العامة . واعتقاد الفنان بالقطيعة
القائمة بين سكان لوحاته يتمثل بوحدة الوجوم والاستغراب والانزواء المنفتحة على
أسلوبه بالإبانة عن كون غامض تتخلق كائناته كل مرة بدلالات مختلفة , وكأن الصوت
الوحيد المسموع على مسافة الطريق هو روح الفنان أو صدى ذاته التي نستشفها كلمحة حين
نترك عملاً لننتقل إلى عالم آخر .
ليس للطريق بداية أو نهاية في هذه الأعمال , إلا أن هذا المقطع يحدد بالتأكيد مسار
الخطوات , حيث مسرح الحدث ومصدر الفعل .ففي كل تآلف أو تنافر للشخصيات سرد لحكاية ,وبيان
لمعنى يتبدى في انفراج الصمت عن سخريته .. وهنا يفسح الصافي المجال للتخمين
والاقتراب أكثر من عوالمه الفنية بالتلميح والدلالات بمقابل الفروق التقنية , التي
تدفعه على مستوى الخط واللون لاشتقاق فعل بصري ينتسب إلى الحالات التشخيصية
بدلالاتها الجديدة . مما يجعل الغرض التصويري يتبدى على شكل معين هو سعي الفنان
لإظهار أشخاصه في إطار ما يخصها , وتركه عارياً أمام العين للإفصاح عن كونه , بعيداً
عن التلقي المتداول لفعل الرؤية والصياغات اللازمة التي يحولها إلى صياغات متعدية
يشتق من كيفيات توضعها بزوغات رؤيوية للحاضر كزمن أو واقعة أو حدث .
إن التساؤل عن المتغير في الطريق هو تسأل عن من يشغله من جهة , وعن من لا يتردد في
أعادة رسمه كل مرة باعتباره من مسرحية تتلاحق فعاليتها انطلاقاً من وحدة الموضوع ,
ومن مراحل المسير التي تقود إلى الظلمة أو النور, والمعادلة بين الزوايا التي
ينظرعبرها الفنان إلى هذا الرباط الذي يجمع الناس وهم في سبيلهم إلى الاختفاء في
عالم يتحول يوماً بعد يوم إلى الافتراض تكون الصورة فيه منزل الإنسان.ولعل الصراع
بين الحضور والغياب يشكل في عمقه تساؤلاً ضرورياً لحظة مشاهدة مثل هذه الأعمال,إنه
الصراع بين الخفاء واللاخفاء الذي يفصح عن غاية بعيدة كل البعد عن اتجاهات الطريق ,
ويجعل من الشخصيات كائنات سابحة في أبعاد العمل الفني تحت ضوء السكون , وعلى طريق
قد لا يكون منفذاً إلى نقطة أو مكان , لكنه طريق يدعو للتحرر من شبكة التصورات
المسبقة عن المصور , والذهاب بعيداً في ما يحرك الروح أثناء الرؤية المباشرة لأسرار
الفنان وعوالمه الذاتية .
ينتج ياسر الصافي إذن قراءة بصرية جديدة للشارع انطلاقاً من ذاته , لهذا يستبصر
المشاهد في هذه القراءة الضدية مختلف المونولوجات التي يجريها بأعلى حالات
الوجدانية للتفلت من سلطة التصوير وإحكاماته بولوج إزاحات مرحة ينعكس حضورها في
الصياغات الدلالية للاجتزاءات الحية داخل إطار العمل الواحد, واستحضار بنيات بصرية
هامشية تلعب دوراً تراجيدياً في تفعيل أجزاء العمل , وتشخيص سويته العاطفية على
مستوى الرغبات بشكل تمثيلي دلالي .. الأمر الذي يقود أحياناً للأنخراط في حقيقة هذه
المشهديات , وتناسي مؤلفها , أو تجاوز خبثه بلتخفي , والاستجابة الكلية للمبصور
المعبر عن نفسه باستعارة رغبة الفنان في إطلاق الحقيقة المعاصرة للشارع , ولعب دوره
الكامن في خطابه البصري . وهو ما يمكن دعوته حضور المبصور كوجود يتضمن فكرة الطريق
كخرافة معاصرة تتجاوز الدلالات التاريخية لهذا المعنى , جراء هيمنة الاتصال
المستحدثة وحولها عبر تماميتها في موقع اختراق التأويلات السابقة لوجود الإنسان فيه
.
لقد جعل الصافي من الذاكرة المعاشة مرئياً تحتل فيه الشخصيات المهمشة موقعها ,
والمقصود بالمهمشة الشخصيات غير المرئية التي تتحول إلى كائنات مرئية . ستبقى موضع
شك كونها على صلة بحقيقة الواقع , وتحيل إليه دون الدخول في التفصيلات . وهو بعملية
الإظهار هذه يسعى لتكوين واقع مجازي من مدينة في عالم سنجد إلى جانب لذة اكتشافه
التأويلات الغامضة التي تعرض نظام التعبير في أعمال الصافي . فالشواهد كثيرة ,
مفتوحة ومتقابلة , ولن يسقط من حسابات المتفرج الكيفية التي عليه أن يلتقط من
خلالها لذة فعل الرسم والطريقة التي يبرهن من خلالها الفنان عن مهاراته الحاسمة
لبناء عوالم العزلة , وجعل الناظر يعيها أكثر مما يراها وهي في طور الحياة مع
متعالقاتها البصرية خارج التقنيات المعقدة ليبقى في فعل الرسم الذي يسعى لتقديم
نفسه بجلاء دون حاجة إلى وسائط.
إن التدقيق بملامح الشخصيات وموقعها ومبادلاتها الشكلية مع كائنات لاإنسانية كل ذلك
يكرس فهم الفنان لهذه الشخصيات باعتبارها أحداثاً لموجودات , يكشف الخطاب البصري عن
معنى وجودها بالحال التي هي عليه . أي أن الفنان يؤكد عملية التدليل والمبادلة بين
الأثر ومحمولة من جهة , وبين التحول في النسب التشريحية والفهم المستقر للثقافة
المستقبلية أو المقترحة , التي تشكل إحدى الألعاب المزيفة للمعنى , حتى وهي تبهر
بحضورها وأكادميتها ووظيفتها قطاعاً واسعاً من حرفيي الجمال وموظفيه الذين ينأون عن
الوهم والإيهام كموقع تكرس معنى الإبداع , يسعى إليها أي مبدع لفض ظلماتها ,
والتصريح بأنه على الطريق دائماً لاكتشاف ما لم يسبقه أحد إليه... فحقيقة الرسم
غيرممارسته كما أن عدم التفريق بين الفن في الحياة والحياة في الفن مازال مستمراً
..
مع بعض الأعمال الفنية ومنها أعمال ياسر الصافي يتأكد لي أن الفن لا يمكن تعلمه ,
ولا بد من الاحتراس من الوقوف لمشاهدة أعماله , كونها تدعو للخروج من موقع الناظر
إلى موقع المفكر والمتسائل عن الآفاق المتاحة لهذه الشوارع والطرقات . |
|
|